الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فالوردة مثلًا بعد نضارتها وطراوتها وجمالها حيث تُقطف تجفّ ويتبخر ماؤها، وكذلك اللون والرائحة في الأثير الجوي، وما تبقى منها من مادة جافة تتحلل في التربة، فإذا ما زرعنا وردة أخرى، فإنها تتغذى على ما في التربة من عناصر، ما في الأثير الجوي من لون ورائحة.إذن: فعناصر التكوين في الكون لم تَزِدْ ولم تنقص منذ خلق الله الخَلْق، ولدورة النبات في الطبيعة بدء ونهاية وإعادة أشبه ما تكون بخَلْق الإنسان، ثم موته، ثم إعادته يوم القيامة.وكأن الحق تبارك وتعالى يعطينا الدليل على الإعادة بما نراه من دورة النبات، دليلًا بما نراه على الغيب الذي لا نراه.ثم يقول الحق سبحانه: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات}.كما قال الحق سبحانه وتعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59].والغيب: كلّ ما غاب عن إدراكك وحِسِّْك، لكن مرة يكون الغيب غيبًا إضافيًا يغيب عنك، ولا يغيب عن غيرك، فأنا لا أعرف مثلًا ما في جيوبكم لكن أنتم تعرفون، والذي سُرِق منه شيء وأخفاه السارق، فالمسروق منه لا يعلم أين هو، لكن السارق يعلم.وإما يكون الغيب غيْبًا مطلقًا، وهو ما غاب عنّا جميعًا وهو قسمان: قسم يغيب عنا جميعًا، لكن قد نكتشفه ككل الاكتشافات التي اهتدى إليها البشر. وهذه يكون لها مقدمات تُوصِّل إليها، وهذا غيب نصف إضافي؛ لأنه غيب اليوم لكن نراه مشهدًا بعد ذلك، فلا يكون غيبًا.ومثال ذلك: تمرين الهندسة الذي نعطيه للأولاد بمقدِّمات ومعطيات، يُعمِلون فيها عقولهم حتى يتوصلوا إلى الحل المطلوب، وهذا النوع يقول الله عنه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].فإذا شاء الله وجاء ميلاد هذا الغيب أطلعهم الله تعالى على المقدمات التي توصِّل إليه، إما بالبحث، وإما حتى مصادفة، وهذا يؤكده قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53].ومن الغيب المطلق غَيْب حقيقي، لا يطلع عليه ولا يعلمه إلا الله فقد استقبل سبحانه وتفرَّد بمعرفته، وهذا الغيب يقول تعالى عنه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26- 27].ومن هذا الغيب المطلق قضية القيامة {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] فالقيامة لا يعلم وقتها إلا الله سبحانه، إلا أنه جعل لها مُقدِّمات وعلامات تدلُّ عليها وتُنبىء بقُرْبها.قال عنها: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] البعض يظن أن {أُخْفِيهَا} [طه: 15] يعني: أداريها وأسترها، لكن المعنى ليس كذلك {أُخْفِيهَا} [طه: 15] يعني: أزيل خفاءها، ففرْق بين خَفي الشيء وأخفاه: خَفَى الشيء عني: ستره وداراه، أما أخفاه فيعني: أظهره، وهذه تُسمَّى همزة الإزالة، مثل: أعجم الشيء يعني: أزال عُجْمته. ومنه المعجم الذي يُوضِّح معاني المفردات.وكما تكون الإزالة بالهمزة تكون بالتضعيف. نقول: مرض فلان يعني: أصابه المرض، ومرَّض فلانًا يعني: عالجه وأزال مرضه، ومنه: قشَّر البرتقالة: يعني أزال قشرها.فالمعنى {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] أي: أكاد أُظهِرها، ألاَ ترى أن للساعة علامات كبرى وعلامات صغرى، نرى بعضها الآن، وتتكشف لنا من الأيام علامة بعد أخرى.لكن يظل للقيامة وقتها الذي لا يعلمه إلا الله؛ لذلك يقول عنها: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187].والنبي صلى الله عليه وسلم يفتخر بأنه لا يعلم موعدها، فيقول حين سُئِل عنها: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل».فشَرفٌ لرسول الله ألاَّ يعلم شيئًا استأثر الله بعلمه، والقيامة غَيْبٌ مطلق لم يُعْطِ الله مفاتحه لأحد حتى الرسل.وقد يُكرِم الله تعالى بعض خَلْقه، ويُطلِعه على شيء من الغيب، ومن ذلك الغيبيات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون لها مُقدِّمات توصِّل إليها، فلابد أنها أتته في وحي القرآن، كما في قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِين} [الروم: 14].وكان الروم أقرب إلى الله؛ لأنهم أهل كتاب، وكان الفرس كفارًا يعبدون النار، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته يتمنْون انتصار الروم على الفرس، فنزل الوحي على رسول الله يخبره {غُلِبَتِ الروم} [الروم: 2] لكنهم في النهاية {سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] ولولا أن الله تعالى حدد غلبهم {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] لكان انتصارهم دائمًا، لكن مَنْ يستطيع تحديد مصير معركة بين قوتين عُظميين بعد بضع سنين إلا الله؟ولأن انتصار الروم يُفرِح المؤمنين بالله، قال سبحانه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 45].وتشاء قدرة الله أنْ يأتيَ انتصار الروم على الفرس في نفس اليوم الذي انتصر فيه المؤمنون على الكافرين في بدر.ومن الغيب الذي يفيض الله به على عبد من عباده ما حدث من الصِّديق أبي بكر رضي الله عنه وقد أعطى ابنته عائشة رضي الله عنها مالًا، فلما حضرتْه الوفاة قال لها: هاتي ما عندك من المال، إنما هما أخواك وأختاك: أخواك هما محمد وعبد الرحمن، وأختاك: لا نعلم أن لعائشة أختًا غير أسماء، فمن هي الأخرى؟كان الصِّديق قد تزوج من ابنة خالته وكانت حاملًا، لكن الحق تبارك وتعالى تجلى عليه وألهمه أنها ستُنجب بنتًا تنضم إلى عائشة وأسماء.وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] أي: كما أننا لا نشعر بالموت ولا نعرف ميعاده، كذلك لا نشعر بالبعث، ولا متى سنُبعث.ثم يقول الحق سبحانه: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ}.معنى {ادارك} [النمل: 66] أي: تدارك، يعني: توالى وتتابع الحديث عنها عند كل الرسل، ومنه قوله تعالى: {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا} [الأعراف: 38] يعني: جُمِع بعضهم على بعض.إذن: تتابع الإعلام بالآخرة عند كل رسل الله، فما منهم إلا وقد دعا إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، وأتى بالدليل عليه.ومع متابعة التذكير بالآخرة قال الله عنهم {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} [النمل: 66] أي: من الآخرة، فلماذا؟ يقول تعالى: {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66] أي: عميتْ أبصارهم وبصائرهم عنها، فلم يهتدوا، ولو تفتحتْ عيونهم وقلوبهم لآمنوا بها.يقول تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46].إذن: هناك شيء موجود بالفعل، لكني أغفلته، أو تغافلت عنه بإرادتي، فآيات البعث والقيامة موجودة ومُتداركة، لكن الناس عَمُوا عنها فلم يَرَوْها.ومعنى: {عَمُونَ} [النمل: 66] جمع عَمٍ، وهو الذي عميتْ بصيرته عن دلائل القيامة الواضحة. اهـ.
|